عادة ما يتخذ أي فصل لدراسة الاقتصاد الفيلسوف آدم سميث وديفيد هيوم وغيرهما من مؤسسي حركة التنوير الأسكتلندية في القرن الثامن عشر نقطة للانطلاق، وكأن علم الاقتصاد الحديث لم يبدأ إلا بهما. ورغم الإشارة العابرة إلى إسهامات العالم والنابغة المسلم ابن خلدون، الذي عاش خلال القرن الرابع عشر، إلا أنه في الغالب، يهيمن الظن على مسلمي القرن الحادي والعشرين أن أسلافهم لم يقدموا إلا اليسير في هذا المجال، أو لم يسهموا فيه على الإطلاق. والسؤال هنا، هل هذه هي الصورة الحقيقية العادلة والمنصفة لهم؟ في كتابه الذي نُشر عام 2014، "تاريخ الفكر الاقتصادي في الإسلام"، قام الأستاذ والباحث عبدالعظيم اصلاحي بإثبات خلاف هذه الرواية السائدة. فالإسهام الأهم والأبرز لهذا الكتاب هو الوصف الدقيق والمفصل للإنجازات الفكرية لعلماء الاقتصاد المسلمين خلال العصور الوسطى – وهي الحقبة التاريخية التي شهدت ركوداً علمياً من الجانب الأوروبي. وتضم هذه الإنجازات العمليات المعقدة التي حاول من خلالها العلماء المسلمون استنباط الرؤى الاقتصادية من القرآن الكريم ومن سنة الرسول (ص) فيما يخص بعض المسائل مثل أحكام الإرث والوساطة المالية والشراكات الاستثمارية وكيف استطاعوا الجمع والتوفيق بينها وبين إسهامات العلماء والفلاسفة اليونانيين والتي عمدوا إلى نقلها وترجمتها إلى اللغة العربية، بل وما استطاعوا من تحقيقه بتلخيص ما توصلوا إليه من أعمال وإنجازات وترجمتها إلى اللغات الأوروبية السائدة في حينها، وهذه هي حلقة الوصلة التي بها تم ضم المبادئ الإسلامية إلى قائمة الأسلاف السابقين ومنها إلى الاقتصاديات الحديثة.
وفي بحثه، يؤكد الأستاذ اصلاحي أن الدارسين والباحثين ممن ألهمتهم تحليلات علماء الاقتصاد المسلمين وكانت بذرة إسهاماتهم الخاصة، أغفلوا تماماً ذكر فضل العلماء المسلمين واسهاماتهم بشكل لا يمكن وصفه إلا بالتخطيط المنهجي، ويرى اصلاحي أن الكراهية الدينية والإجحاف تجاه المسلمين في ذاك الوقت كان الدافع وراء هذا. أثناء دراستي للاقتصاد في الفترة ما بين 1998 -2007، لم أتعرض مطلقاً لإسهامات علماء الاقتصاد المسلمين الأوائل في العصور الوسطى، وأنا على يقين أن هذه ليست تجربة فردية تخصني وحدي، بل هي حقيقة يعيشها جميع الطلاب والزملاء في نفس المجال حول العالم. ولكن، دراسة تاريخ الفكر الاقتصادي بشكل عام – وليس فقط المكون الإسلامي منه – لا تتم تغطيتها إلا بشكل عابر في معظم مناهج الشهادات العلمية في الاقتصاد، هذا إن تم ذكرها على الإطلاق، مما يعني أن هذه الظاهرة ليست معادية للمسلمين بشكل خاص أو تشوبها شائبة عنصرية. ولكن من عواقب هذا الأمر، أنه حتى الآن يبدأ الاقتصاديون من نقطة الصفر عند محاولتهم دراسة ظاهرة ناقشها القرآن والسنة بالفعل، فلا ينتهون إلا لمحاولة صنع العجلة من جديد باختلاف طفيف في كل مرة. ومن أبرز الأمثال على هذا، الوساطة المالية في أعقاب الأزمة المالية العالمية: ظن الكثيرون أن النطاق المرتفع من دورة الازدهار والكساد وهو السمة المميزة لأسواق الاقتصاد الحديث، حقيقة حتمية لا يمكن الفرار منها، ناهيك عن آثارها السلبية على باقي الاقتصاد. إلا أن المبادئ الإسلامية للمعاملات البنكية موضوعة بشكل جزئي لتكون إحدى الطرق الاستباقية لتقليص حجم التداعيات الناتجة عن – الفقاعات المالية التي تقوض أعمدة الاقتصاد وتهدد استقراره. والآن، بدأ الأكاديميون من غير المسلمين في الاعتراف والإقرار بموضوعية وأهمية دراسة "الاقتصاد الإسلامي"، وأن هذه الدراسات يمكن أن تسهم بحلول لبعض المشكلات الملحة التي تواجه عالمنا اليوم. ومن أحدث الأمثلة على ذلك، الكتاب الذي أصدره توماس بيكيتي حديثاً بعنوان "الرأسمالية" والذي تربع على قائمة الأفضل مبيعاً، وفيه يناقش بيكيتي ويحلل أسباب التفاوت العالمي وعدم المساواة. وانتهى بيكيتي في كتابه إلى استنتاج أن ضرائب الاستهلاك والدخل وسيلتان غير فعالتين نسبياً لمواجهة مشكلة عدم المساواة والتفاوت، ورأي بيكيتي أن الحل يكمن في تطبيق ضريبة عالمية على الثروات تعادل 2%، تكون به بديلاً عن ضرائب الدخل. وبالرغم من أن هذه النسبة للبعض هي مجرد نسبة مستندة إلى حسابات رياضية واقتصادية، إلا أنها ليست كذلك لأي مسلم. فالزكاة التي يخرجها المسلمون من أموالهم تقريباً تعادل 2.5% من ضريبة الثروات، وهي أحد أركان الإسلام.ـ هل كان بيكتي على علم بهذا؟ لا أظن، ولا ألومه على عدم معرفته، فجميع من يعمل بمجال الاقتصاد – ومن بينهم أنا – بلغ الجهل بنا ما بلغ فيما يتعلق باقتصاد الباحثين الأوائل والتي سبقت عهد ونظريات آدم سميث، بل يمتد جهلنا ليشمل إسهامات جميع من سبق عصر التنوير الأسكتلندي. ولكن، ربما يجد رجال الاقتصاد وباحثوه ممن يكرسون بعض الوقت لقراءة قواعد الزكاة بعض الأفكار الثاقبة والآراء المستنيرة التي تمكننا من بلورة وتطوير نظرية "ضرائب بيكتي". ـ فعلى سبيل المثال، يضع الإسلام اشتراطات محددة وخاصة لمن توجب له أموال الزكاة (الفقراء والمساكين والمرضى، إلخ)، فأي أشكال تتخذها الزكاة (مالية أم تبرعات عينية، إلخ)، ومن له الأولوية من بين المستحقين لأموال الزكاة إن كانوا متساوين اسمياً (ذوي القربى، الجيران، إلخ)، وأبعاد أخرى عديدة. علاوة على ذلك، عدد من هذه القواعد عادة ما يكون مصحوباً بالتفسيرات المنطقية، والتي قد تساهم في بناء إطار عمل أكثر دقة للتبرعات الخيرية التي يقدمها المسلمون وغير المسلمين على السواء.ـ وهذه نقطة لابد من التوقف عندها والتركيز عليها، فحالياً يبدو أن الحكومات لا يوجد أمامها أي تصور عن حلول تقدمها لمشكلة التفاوت وعدم المساواة، على الرغم من موافقة الجميع أن عدم المساواة بين الدول وداخلها أصبحت مشكلة خطيرة تهدد الأمن والاستقرار العالمي. ولتلق نظرة خاطفة على حجم الأهمية التي يوليها السياسيون ووسائل الإعلام إلى مشكلة الهجرة غير الشرعية التي يواجهها العالم الآن لتعرف مدى حساسية الموقف، وهي نتيجة مباشرة لعدم المساواة العالمية. ولهذا قامت الأمم المتحدة للتنمية المستدامة بوضع التنمية الاقتصادية الشاملة أحد محاورها وأهدافها الرئيسية، إلى جانب تقليص أشكال عدم المساواة التي تقوض أعمدة الرفاه الاجتماعي. ولازالت تفاصيل كيفية تحقيق هذا قيد البحث، إلا أن إطار عمل الأمم المتحدة للتنمية المستدامة إحدى الطرق الفعالة في التنظيم المنهجي للأدلة العملية للكشف عن الأدوات والأساليب المجدية وغير المجدية.ـ ولهذا، فإجابتي على السؤال المطروح في عنوان المقالة، هي "نعم"، لقد أنكر علم الاقتصاد الحديث ورجاله فضل العلماء المسلمين واسهاماتهم فيه، وأنا من بينهم. الأمر الذي يدفعني لترشيح كتاب الأستاذ عبدالعظيم اصلاحي "تاريخ الفكر الاقتصادي في الإسلام" لهؤلاء الراغبون الساعون خلف الأمانة الاكاديمية والإنصاف الفكري، وأيضاً لمن يبحث عن أفكار جديدة عن كيفية حل الأزمات العالمية. ـ
0 Comments
Leave a Reply. |
Omar Al-Ubaydli
This is where you can find all my articles, as well as some of my interviews and media mentions Archives
June 2020
Categories
All
|