نُشر في صحيفة أخبار الخليج
بعد إجراء دراسات رصينة، وعقد مشاورات رسميّة مع كبار المسؤولين في القطاعات الخاصة والحكومية والتعليمية، أدرك مجلس التعليم العالي أن سوق العمل قد تغير بشكل جذري، حيث إن دور الخبرة التطبيقية تعزز ضمن قائمة العوامل التي يبحث عنها أصحاب الوظائف حينما يقيّمون المتقدمين للوظائف. وبناءً على ما سبق، اطلق مجلس التعليم العالي مشروعاً واعداً، وهو البرنامج الوطني للوظائف التدريبية.ـ وأتاح البرنامج للطلاب الحاليين فرصة لاكتساب مهارات ثمينة أصبحت جوهرية لمن يبحث عن وظيفة في الاقتصاد الحديث، على رأسها الخبرة التطبيقية في مجال مهم، ومهارات الكتابة وصياغة التقارير، والعمل الميداني، فضلاً عن مهارات «ناعمة» مفيدة في كل أنواع العمل، كالتصرف بمسؤولية واحترام، وبروح التعاون. وكذلك سيستفيد أصحاب الوظائف من البرنامج أساساً كوسيلة لتقييم الخريجين بدقة ولمنحهم مهارات تمهيدية تسهّل تأقلمهم في حالة توظيفهم بعد فترة التدريب. وبلغت مدة البرنامج 6 أسابيع، من منتصف شهر يوليو إلى بداية شهر سبتمبر.ـ ولا تمثل البحرين حالة خاصة من ناحية التغييرات الجذرية التي مرت بها سوق العمل، فشهدت كل الاقتصادات المتقدمة تغيراً شبيهاً يعود بالأساس إلى تزايد سرعة التطور التكنولوجي. وعلى سبيل المثال، اخترع المبتكر الإنجليزي توماس نيوكومن محرّك البخار في عام 1712، والذي أصبح رمز الثورة الصناعيّة، ولكن انتظر العالَم - بعد ذلك - ما يزيد على 50 سنة أخرى حتّى ظهرت النسخة الثانية، الّتي اخترعها المهندس الاسكتلندي جيمز وات. ومقارنةً بذلك، نَمَتْ قوّة الحاسب الآليّ - انطلاقاً من 1986 - بنسبة 50% سنويّاً! واليوم نرى نسخا جديدة من هواتف سامسونج وأبل كل ثلاثة أشهر!ـ وأثّر التطوّر التكنولوجيّ على سوق العمل، وعلى العلاقة بين الموظّف وصاحب الوظيفة منذ بداية الحضارة، وربّما أبرز مثال على ذلك هو استبدال البشر بالآلات، كما حصل في الثورة الصناعيّة من خلال استخدام أجهزة النسيج، وكما يحصل اليوم عبر الإنترنت والمتاجر الرقميّة التي قلّلت اعتمادنا على البائع التقليدي.ـ وفي العشرين سنة الأخيرة، في عصر العولمة وانتشار الإنترنت، أصبح التطوّر التكنولوجي يؤثّر على سوق العمل بطريقة جديدة، حيث خلقت سرعة التغييرات التقنيّة الحاجة إلى موظّف مرنٍ قادرٍ على التكيّف مع الأوضاع الجديدة، وهذا هو ما توصل إليه مجلس التعليم العالي من خلال مشاوراته مع أصحاب الوظائف. فعلى سبيل المثال في الخمسينيّات، كان الفنّي في مصنع «فورد» يلتحق بالشركة في سنّ مبكرة (حوالي 18 سنة)، ويقوم بنفس العمل في نفس المصنع لمدة 40 سنة قبل التقاعد النهائيّ. وفي العصر الراهن أصبح سير عملٍ مثل هذا حالةً نادرةً جدّاً؛ فالعامل الحديث يتنقّل من شركة إلى أخرى، ومن مهنةٍ إلى مهنةٍ غيرها؛ لأنّ مطالب سوق العمل تتغيّر بسرعة فائقة؛ نتيجةً للتطوّر التكنولوجيّ.ـ وبالإضافة إلى ذلك، ازداد مدى التخصّص للشركات؛ لأنّ أحدث التكنولوجيات تتطلّب معرفة دقيقة ومتخصّصة للغاية، وفتحت العولمة سوقاً لمن هو مستعدٌّ للاستثمار في المعلومات الفنيّة المطلوبة للتنافسيّة في الأسواق الدوليّة. فحينما صنعت شركة «بوينج» طائرتها الجديدة «787 دريملاينر»، اشتملت قائمة الشركات الفرعيّة الرئيسيّة (وليس الثانويّة!) للمشروع على ما يزيد على 350 وحدة، منها شركات مكرّسة لإنتاج بضاعة محدّدة متخصّصة.ـ ونتيجةً لهذه التغيّرات في البيئة التجاريّة، أصبحت الجامعات غير قادرة على تأهيل الطالب لوظيفة ما بشكل نهائيّ. وهذا لا يعني أنّها فقدت أهمّيّتها – بل إنّ دورها تعزّز، لا سيّما في بناء مهارات أساسيّة للطالب، لكنّ تعدُّد المجالات المتخصّصة في سوق العمل وسرعة تطوّرها يمنعان الجامعات من تنويع وتحديث مناهجها بالشكل المطلوب.ـ لذا؛ نرى أنّ الخبرة المهنيّة تحوّلت إلى أحد أهمّ عناصر السيرة الذاتيّة؛ لأنّ صاحب الوظيفة يعلم أنّ الحصول على المهارات المطلوبة للوظيفة يستحيل إلّا عن طريق الخبرة التطبيقيّة، التي لا يمكن نيلها في مؤسّسة تعليميّة. وتذكَر هذه المعلومة حينما تستفسر الحكومات من الشركات عن أسباب رفضهم للمتقدّمين للوظائف، كما حدث حينما قام مجلس التعليم العالي بمملكة البحرين بمسوحات تفصيليّة حول فجوات المهارات في سوق العمل.ـ وتشكّل ظاهرة «أهمّيّة الخبرة» أحد أهمّ أسباب إصرار مجلس التعليم العالي ووزارة التربية والتعليم على إطلاق برنامجٍ وطنيٍّ للتدريب المهنيّ بالتعاون مع كلّ أصحاب المصلحة – الشركات، والطلبة، والجامعات، والخرّيجين، إلخ. فلا يمكن للبحرينيّ اليوم أن يعتمد على وظيفة حكوميّة كما كان في السبعينيّات والثمانينيّات؛ إذ ينبغي عليه تلبية احتياجات أصحاب الوظائف في القطاع الخاصّ وفق رؤية 2030. الوظائف التدريبيّة تمنح فرصة ثمينة للمتقدّم للعمل لبناء القدرات والمهارات المطلوبة في سوق العمل، والتي لا تقدّمها أيّة مؤسّسة تعليميّة، لكنها تقدم تحديات جديدة أيضاً، خصوصاً في مفهوم الراتب الذي يستحقه المتدرب. فمن المتوقّع أن يكون الراتب منخفضاً أو ربّما غير متوفّر في مثل هذه الوظائف، حيث إنّ أهمّ ما يحدّد راتب الموظّف، في سوق العمل عموماً، هو إنتاجيّته. ويتّصف المتدرّب بإنتاجيّة متدنّية، وتعتبر سالبة؛ بسبب الوقت الذي يفقده الموظّفون الآخرون في عمليّة تأهيل المتدرّب. وهناك من يرفض فرص الوظائف التدريبيّة؛ بسبب تواضع أو غياب الراتب، لكن - في الحقيقة - هذا هو الخسران بعينه؛ لأنّ الوظيفة التدريبيّة تعتبَر نوعاً من الخدمة التعليميّة.ـ ولماذا يخسّر أصحاب الوظائف مواردَ ثمينة على تدريب غير المؤهّلين؟ لأنّ الوظائف التدريبيّة أصبحت وسيلة فعّالة واقتصادية لتقييم قدرات ومهارات المتقدّم للعمل، لا سيّما في ظلّ قوانين العمل الحديثة. ففي أيّام الثورة الصناعيّة في القرن الثامن عشر، كان يحقّ لمدير المصنع أن يوظّف شخصاً ما، وأن يفصله في أيّ وقت، دون إنذار أو عبء ماليّ، ممّا قلّل أهمّيّة الوظيفة التدريبيّة. ولكن في العصر الراهن، تتحمّل الشركات التزامات ملحوظة حينما توظّف شخصاً ما، منها عدم فصله من غير سبب أو تعويض. ولذا أصبح من مصلحة الشركات أن تقيّم العمّال المحتملين بدقّة، قبل اتخاذ قرار نهائيّ حول التوظيف. وتشكّل الوظيفة التدريبيّة وسيلةً ممتازةً لتحقيق هذا الهدف.ـ وبشكلٍ عام، ليست الوظائف التدريبيّة «عبوديّة» حديثة، وليس من يعمل كمتدرّبٍ مضطهدٍ، أو محرومٍ من راتب قويّ؛ بسبب مؤامرة، بل تعكس الوظائف التدريبيّة استجابةً من الشركات لظروف جديدة في سوق العمل: (1) عزّز التطوّر التكنولوجيّ أهمّيّة الخبرة التطبيقيّة التي لا يمكن الحصول عليها في الجامعة، (2) كما ارتفعت الكلفة التي تتحمّلها الشركة حينما ترتكب خطأً في التوظيف؛ بسبب الحمايات العديدة التي تفرضها وزارة العمل على أصحاب الوظائف.ـ ونأمل أن يستفيد كلّ الأطراف من المشروع الواعد البرنامج الوطنيّ للوظائف التدريبية، والذي يشكل جزءاً من خطّة واسعةٍ؛ لمعالجة فجوات سوق العمل.ـ «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ» (البقرة: 155)
0 Comments
نُشر في صحيفة أخبار الخليج
في عام 1831 قام دوق ويلنجتون بتأسيس المعهد الملكي للخدمات الموحّدة، وأصبح المعهد أول مركز أبحاث أمني-دفاعي في تاريخ العالم. وقام الدوق – بطل معركة ووترلو– بطرح المشروع؛ وذلك بسبب تعقّد وسرعة تطوّر القضايا الأمنية، في بداية القرن التاسع عشر، حيث أصبحت الوسائل التقليدية غير الاحترافية، للتخطيط العسكري، والتعامل مع المستجدات الأمنية، سببا في تراجع النفوذ البريطاني، وأدرك الدوق أنّ هناك حاجة لإجراء تغيير نوعي في وسائل صنع القرارات العسكرية.ـ ووصل مفهوم مركز الأبحاث إلى أمريكا في القرن العشرين، أولاً بوقف كارنيجي للسلام الدولي في عام 1910، ولاحقاً بمعهد بروكنجز في عام 1927. وتوسّع القطاع، بشكل ملحوظ، بعد الحرب العالمية الثانية، حينما بدأت الحكومة الأمريكية تخصّص نسبة كبيرة من ميزانيتها، للمشاريع العلمية-الفكرية، كجزء من الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفيتي، وأُنشئت مراكز كمعهد راند بتمويل القوة الجوية الأمريكية في عام 1948. وفي العصر الراهن، تستند تقريباً كلّ حكومات العالم المتقدم على تحليلات وتوصيات مراكز أبحاث في قراراتها.ـ وقد يتساءل المواطن العادي: هل تؤثر مراكز الأبحاث فعلاً على صنّاع القرار؟ وقد وُجّه هذا السؤال للباحث والدبلوماسي الأمريكي المشهور، ريتشارد هاس، وقام بتوضيح كيف تكمّل مراكز الأبحاث المؤسسات القائمة، حيث إنّها تملأ الفجوة بين الحكومة والجامعات، فيقول: يتطلّب العمل الحكومي متابعة تفصيلية يومية؛ ممّا يحرم الموظفين الحكوميين من الفرصة للتركيز، ومن وراحة البال، اللذين يعتبران من أهمّ عناصر البيئة المشجّعة للبحث العلمي. وأما الجامعات فهي تعاني من المشكلة المعاكسة، حيث إن بُعْدَ عملها عن القرارات الحكومية اليومية، والحرية الفكرية شبه المطلقة، يدفعان الباحثين الأكاديميين نحو الدراسات النظرية ذات الأهمية المحدودة - بحسب منظور صنّاع القرار. وعلى سبيل المثال، يقوم الباحث المشهور أنتوني كوردسمان بدراسات أسبوعية، وشهرية، وفصلية، وسنوية، من خلال عمله، كخبير في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن، تتناول أحدث المستجدات الأمنية الأمريكية. ونتيجة لدقّة، ورصانة، وسرعة إصدار دراساته، أصبح لها أثر ملحوظ، على تفكير كبار المسؤولين العسكريين الأمريكيين. مثلاً نشر في يوم قمة كامب ديفيد – التي جمعت رئيس الولايات المتحدة باراك أوباما برؤساء الدول الخليجية – ورقة تحلّل ما حدث، وتقدّم توصيات لصنّاع القرار.ـ في المقابل لا يمكن للقادة العسكريين أنفسهم الاستناد على أعمال أساتذة الجامعة المرموقة جورجتاون في قراراتهم اليومية؛ لأنّ دراسة الأستاذ الأكاديمي تستغرق عادة 3 سنوات أو أكثر، وتغطّي قضايا نظرية، وضعيفة الارتباط بالمستجدات اليومية، مثلاً: «ما هو الدور الأمريكي في الأمن الإقليمي الخليجي خلال آخر 50 سنة؟».ـ وإن سألت أكاديميّاً ما عن رأيه حول قمة كامب ديفيد، سيفكر في صياغة ورقة رصينة طولها 30 صفحة على الأقل، تتحدّث عن كلّ القمم السابقة، وتتطلّب أشهرًا، للإعداد، لكي يتشبّع المؤلف من خلفيّة شاملة حول الموضوع. وإن قُدمت الدراسة إلى صانع القرار بعد إصدارها، سيعتبرها متأخرة؛ لأنّ اهتمامه انتقل إلى قضايا أخرى، فضلاً عن أنّه يجدها طويلة ومملوءة بمعلومات، لا تساعده على اتخاذ القرار الأفضل، حيث إنّه يفضّل الصفحات الثلاث المكثفة الموجزة، التي أعدّها كوردسمان.ـ وبالإضافة إلى دورها الفكري، فتقدّم مراكز الأبحاث خدمات أخرى، خلال آخر قرنين، فأصبحت من أهمّ مصادر الكوادر، التي تعمل في الحكومة، وخصوصا ذوي الرتب المتوسّطة والمتقدّمة، (ونادراً المناصب العليا، كالوزراء)؛ وذلك لأنّ العمل البحثيّ المهنيّ يمنح الباحث خبرة، ومهاراتٍ مميّزة، ومفيدة جدّا لاتخاذ القرارات التي تخدم مصلحة الوطن. فبعد تنصيبه في 1980، قام الرئيس الأمريكي رونالد ريجان بتعيين ما يزيد عن 150 موظّفاً من مراكز أبحاث، في مناصب حكومية مهمّة، منها مؤسسة هيريتدج، ومعهد هوفر، والمعهد الأمريكي للريادة. وساهمت تلك الكوادر في أكبر انتصار للولايات المتحدة، في الفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية – وهو هزيمة الاتحاد السوفيتي في الحرب الباردة.ـ ويعتبَر تنظيم المؤتمرات والندوات من أهمّ أدوار مراكز الأبحاث؛ لأنّه يتيح الفرص لصنّاع القرار؛ لتدارس القضايا الأمنيّة مع صنّاع قرار وخبراء آخرين، في بيئة غير رسميّة، ودون محاضر وبيانات. وبالإضافة إلى ذلك، تُفتح قناة اتصال إضافيّة بين صنّاع القرار والمواطنين، ممّا يعزّز مدى التفهّم والتفاهم بين الطرفين، وهذه ميزة مهمّة في العصر الراهن، حينما يفهم الشعب تفكير صاحب القرار، ويسانده في رأيه؛ ولذا قام مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة «دراسات» بعقد عددٍ كبيرٍ من الفعاليات، خلال آخر أربع سنوات، وجمع خلالها لفيفاً من كبار الشخصيات البحرينيّة والخليجيّة والدوليّة؛ سعياً لمساعدتهم في اتخاذ القرارات الأنسب، بالإضافة إلى دعم مملكة البحرين في توصيل رسالتها إلى كلّ من له دور، في صنع القرار في الخارج.ـ نُشر في صحيفة أخبار الخليج
عقدت وزارة الدفاع الروسيّة في منتصف شهر إبريل مؤتمرها السنوي «مؤتمر موسكو للأمن الدوليّ»، بمشاركة نخبةٍ من صنّاع القرار وكبار الضبّاط من مختلف أنحاء العالم، بالتركيز على حلفاء روسيا والدول المحايدة. وهدف هذا المؤتمر القيّم خلق منتدىً لمناقشة المستجدّات الأمنيّة، ولمساعدة صنّاع القرار على تنسيق سياساتهم الأمنيّة بناءً على مصالحهم المشتركة.ـ ووُجّهت لي دعوة للمشاركة في المؤتمر، كجزءٍ من وفدٍ بحرينيٍّ رأسه اللواء الركن خالد الفضالة رئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدوليّة والطاقة «دراسات». وكانت مشاركة اللواء أمراً طبيعيّاً بسبب خلفيّته العسكريّة، فشكّل العمداء والألوية الغالبيّة الساحقة من الحضور، وحتّى الباحثون غير العسكريّين المشاركون كانوا متخصّصين في الدراسات الدفاعيّة والأمنيّة.ـ وكنتُ ربّما الاقتصادي الوحيد وسط ممثّلي القوّات المسلّحة، ممّا منحني منظوراً مختلفاً عن المشاركين الآخرين. وخرجت من المؤتمر بقناعة أنّ تناول الجوانب الاقتصادية للقضايا الأمنيّة قد يثري الحوار، كما أنّه على الأرجح أنّ الاقتصاديّين يستفيدون في ملتقياتهم من تواجد خبراء في المجاليْن الأمنيّ والعسكريّ، فهناك اليوم تداخلٌ جذريٌّ بين هذه المجالات، وخصوصا في التحدّيات التي تواجهها دول مجلس التعاون.ـ وارتكز الحوار على قضيّتين أساسيّتين: أوّلاً: اقتراب القوّات المسلّحة لدى أمريكا وحلفائها من حدود روسيا، بالذات المنظومات الصاروخيّة، وطبيعة التهديدات للأمن الدوليّ النابعة من هذه الظاهرة. وتشكّل أزمة أوكرانيا أهمّ مثلٍ لتوسّع النفوذ الأمريكي غير المقبول من ناحية روسيا، حيث تحدّث كلٌّ من وزير الدفاع سرجي شويجو، ووزير الخارجية سرجي لافروف، ورئيس الأركان فاليري جيراسيموف مدة طويلة عن الموضوع، وأظهروا غضبهم حول السياسة الأمريكيّة. وما يجعل إصرار أمريكا على توسيع امتداد صواريخها - برغم احتجاجات روسيا - أمراً باعثاً على التهكّم هو أنّ أزمة كوبا – التي كانت وضعيّة معاكسة – مثّلت أقرب نقطة في تاريخ البشريّة لاندلاع حربٍ نوويّة. ثانياً: المنظّمات الإرهابيّة – على رأسها «داعش» والقاعدة وبوكو حرام – وأفضل سبل لمواجهتها في سوريا واليمن والعراق، وبالإضافة إلى اهتمام الروس بهذا الموضوع، أعرب وزراء دفاع كلّ من باكستان والهند وإيران وغيرهم عن الحاجة الصارمة إلى تنسيق الجهود الدوليّة في مكافحة الإرهاب.ـ وكما لمّحتُ أعلاه، تمّ تحليل هذه الشؤون الخطيرة من الجانبين الأمنيّ والعسكريّ فقط. وبرغم اعتراف معظم المتحدّثين بدور العوامل الاقتصادية والاجتماعيّة كأسبابٍ جذريّةٍ لهاتين المشكلتين، لم تُطرح إلا حلول أمنيّة وعسكريّة! وليس هذا غريباً، فمن الأفضل أن يقصر خبير الأمن توصياته على اقتراحات أمنيّة تقع ضمن تخصّصه، كما أنّه ينبغي على الاقتصاديّين أن يتحدّثوا أساساً في مجال الاقتصاد. ولكن من الأفضل أن يفتح المنظّمون مجالاً لمشاركة اقتصاديّين وعلماء العلوم الاجتماعيّة لكي تُطرح الحلول الشاملة التي اقتنع الجميع بأهمّيّتها.ـ وعلى سبيل المثال، تعود قدرة أمريكا على توسيع منظوماتها الصاروخيّة إلى قوّتها الاقتصاديّة، فتغري أمريكا الدول المجاورة لروسيا بمساعدات وتسهيلات اقتصاديّة. فشكّل رفض الرئيس الأوكرانيّ فيكتور يانوكوفيتش للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي خطوة محوريّة في اندلاع الحرب الأهليّة؛ لأنّ عديداً من الأوكرانيّين يعتبرون أنّ التقارب من دول أوروبا الغربيّة من مصلحتهم الاقتصاديّة. ويستحيل إقناع المواطن الأوكرانيّ بالابتعاد عن روسيا ثقافيّاً وحضاريّاً إلا بحافزٍ اقتصادي قويٍّ، وبالتالي قد يكون هناك دورٌ مهمٌّ لسياسةٍ اقتصادية روسيّةٍ جديدة لمعالجة الأزمة الأوكرانيّة لصالحها، ولتفادي انتشار المشكلة إلى دول أوروبا الشرقيّة الأخرى.ـ وما يؤكّد هذا الرأي هو الخطّة الاستراتيجية الصينيّة خلال آخر 30 سنة بعدما اتّضح أنّ أمريكا ستنتصر على روسيا في الحرب الباردة - وأدّت تلك الهزيمة إلى انهيار وتفكيك الاتحاد السوفيتيّ - درست الحكومة الصينيّة ما حدث بشكلٍ تفصيليٍّ؛ خوفاً من هزيمةٍ مستقبليّةٍ مماثلةٍ لنظامها الشيوعيّ. واستنتج كبار الباحثين أنّ سبب انتصار أمريكا كان قوّتها الاقتصاديّة، وأنّ تركيز الاتحاد السوفيتيّ على الجانب العسكريّ - على حساب التنمية الاقتصادية - كان خطأً كبيراً، ولذا نرى أنّ الصين تحافظ على موقفٍ دفاعيٍّ مطلق لقوّاتها المسلّحة؛ حيث إنّها لا تتدخّل عسكريّاً في أيّ صراعٍ خارج حدودها (إلا في حالاتٍ استثنائيّة كمكافحة القرصنة، وهذه مشكلة لها انعكاسات اقتصادية بالأساس)، وتقوم استراتيجيّتها الوطنيّة أساساً على التنمية الاقتصادية واختراق الدول الأخرى عبر سيطرة تجاريّة.ـ ويمكن تطبيق نفس المبدأ في مجال الإرهاب: أكد مستشار الأمن القوميّ لرئيس أفغانستان محمد أطمار أنّ أحد أسباب قدرة الجماعات المتطرّفة على استقطاب جنود جيش النظام ومقاتلي الجماعات غير المتطرفة هو قدراتها المالية التي تسمح لها بدفع رواتب أعلى وشراء أسلحة أكثر تقدّماً. ومن الجانب الآخر، يدفع شحّ الفرص الاقتصادية الشباب إلى الانضمام إلى الجماعات المتطرفة بسبب شعورهم بالقهر والإحباط. لذا؛ وجهتُ السؤال التالي إلى المتحدّثين خلال إحدى الجلسات: أسفرت الأزمة الماليّة في 1929 عن خلق توجّهات زينوفوبيّة (كراهية الأجانب) في كلّ أنحاء العالم ممّا أدّى إلى تبنّي سياسات اقتصادية مضرّة، كفرض الضرائب الجمركيّة والابتعاد عن التعاون الاقتصاديّ. وكان هناك دور لهذه العوامل في تشجيع التطرّف الذي انتهى بالحرب العالميّة الثانية، وخسائر بشريّة غير مسبوقة. وبعد الأزمة الماليّة في عام 2008، بدأت الشعوب تكرّر نفس الخطأ، فازدادت شعبيّة الأحزاب القوميّة التي تهدف إلى ترحيل العمالة الوافدة، وتقف ضدّ التجارة الحرّة، على الرغم من الفوائد الكبيرة المتعلّقة بالتكامل الاقتصاديّ. هل أصحاب القرار في القوى الكبرى واعون لهذا التوجّه الخطير الذي بدأ يسبّب نفس الضغوطات التي ظهرت قبل الحرب العالميّة الثانية؟ـ ولم يجاوب المتحدّثون عن سؤالي؛ ربّما لأنّه لم يُثِرْ اهتمامهم، وربّما لأنّه خارج مجال تخصّصهم. ولكن لا بدّ أنّ مَن يبحث عن حلولٍ للتحدّيات الأمنيّة يستفيد - بالضرورة - من نظرة اقتصاديّة. وطبعاً يستفيد الاقتصاديّون في كثيرٍ من تحليلاتهم من رأي خبيرٍ أمنيّ وعسكريّ، على سبيل المثال لا يمكن مناقشة قضايا الطاقة في دول مجلس التعاون – وهي قضايا اقتصادية بالأساس - بشكلٍ كاملٍ دون الاعتبارات الأمنيّة. واشتكت وزيرة دفاع جنوب إفريقيا نوسيفيوي مابسيا-نكاكولا من الأضرار الاقتصادية التي سبّبتها القرصنة؛ لأنّ تكاليف نقل البضائع الأساسيّة إلى القارة ارتفعت، ولكن لم يتمكّن الجمهور من تناول هذا الموضوع الاقتصادي إلا من منظورٍ أمنيّ.ـ ختاماً، أشكر وزارة الدفاع الروسيّة على تنظيم هذا المؤتمر الممتاز فعلاً، وعلى ضيافتها الكريمة، وأوصيها بتوجيه دعوةٍ إلى مجموعةٍ صغيرةٍ من الاقتصاديّين، وعلماء العلوم الاجتماعية؛ للمشاركة كمتحدّثين؛ لتنويع الحلول التي تناقَش في الجلسات. فربّما نرى في الجلسة الافتتاحيّة في 2016 وزير التنمية الاقتصادي الروسيّ أليكسي أولوكايف في المقعد الأمامي بين زميليْه لافروف وشويجو.ـ نُشر في صحيفة أخبار الخليج
في اجتماعه العام في المنامة في نهاية فبراير 2015، بحث مجلس البنوك الإسلامية في موضوع «استراتيجيات التوسع الدولي للمؤسسات المالية الإسلامية». وشهد قطاع الصيرفة الإسلامية نمواً ملحوظاً خلال آخر عشر سنوات، حيث تضاعفت قيمة أصول المؤسسات المالية الإسلامية في الفترة 2006-2011؛ إذ تبلغ قيمتها اليوم ما يزيد على تريليونيْ دولار أمريكي. ويعود نصيب الأسد من هذا التوسع إلى تبني مسلمين مقيمين في دول غير مسلمة لهذا النمط الصيرفي أساساً؛ لأسباب دينية شخصية، وليس بحثاً عن مردود مالي يفوق ما يمكن الحصول عليه في المصارف الربوية. وحينما تقوم المصارف الغربية التقليدية بإطلاق خدمات مالية بحسب الشريعة الإسلامية، فإنها تروَّج تلك الخدمات على العملاء المسلمين، وتركّز الرسالة التسويقية على الالتزام بالمبادئ الإسلامية كأهمّ ميزة، ونادراً ما تُذكر الأسس المالية التفصيلية كوسيلة لاستقطاب العملاء.ـ وبدأت المصارف – مؤخراً - تبحث عن عميل غير مسبوق، وهو العميل غير المسلم، والذي يقوم استخدامه للخدمات المالية الشرعية على اعتبارات تتعلق بالمردود المالي والمخاطرة ومن دون اهتمام بأي جانب ديني. وكان للأزمة المالية الدولية التي حدثت في فترة 2007-2008 دور كبير في إقناع غير المسلمين بأنّ الأدوات المالية الإسلامية تستحق نظرة على أساس ربحي، فكان غير المسلم يعتبر أنّ عملاء المصارف الإسلامية هم أشخاص متنازلون عن الأرباح المالية لغرض ديني، وبالتالي يبحثون عن مردود لن يتحقق إلا في الآخرة. ولكن أشارت الأزمة إلى ضعف جذري في النظام المالي التقليدي؛ مما دفع الخبراء وغير الخبراء إلى البحث عن بدائل لا تتسم بنفس السلبيات.ـ وتركّزت انتقادات المحللين تحديداً على المشاكل التي تنبع من السيولة الهائلة والتركيز على الأرباح ذات المدى القصير؛ لأنّ النظام التقليدي يسمح للمضارب أن يحقق كمّاً هائلاً من الأرباح بسرعة فائقة، عبر أدوات مالية معقّدة، وغير شفّافة، وغير مرتبطة بمشروع ملموس – وبالتالي غير شرعية – إن كان المضارب مستعداً أن يخاطر بشكل كبير. وانفجرت الأزمة حينما خاطر بهذه الطريقة كل من المضاربين، والمصارف، وشركات التأمين، وحتى بعض الحكومات. وتساءل كبار العملاء وصغارهم: هل تقدم الأدوات المالية الإسلامية بديلاً لا يتعرض لنفس السلبيات؟ وبالتالي هل من مصلحة الفرد الرأسمالي غير المسلم أن ينقل أمواله من مصارف ربوية إلى مصارف إسلامية؟ وللإجابة عن هذا السؤال: تم عمل دراسة رصينة قام بتنفيذها كل من الباحث الألماني ثورستن بيك والباحث التركي أسلي كونت والباحثة الجزائرية وردة مروش بمقارنة النموذج المصرفي التقليدي بالنموذج الإسلامي، من ناحية الربحية والفعالية والاستقرار. ومن هذا الجانب، تشكل طبيعة العلاقة بين المقرض والمقترض أهم اختلاف بين النموذجين. فبحسب المنظور الإسلامي، تعكس القروض تعاوناً وشراكة بين الطرفين؛ لأجل إنجاز مشروع ملموس. وأمّا بحسب المنظور الغربي، فهناك ميزة إضافية وجوهرية في القروض، إذ تمثّل محاولة المقرض للحصول على مردود مالي مضمون تفادياً لأي مخاطرة ومن دون اشتراط وجود مشروع ملموس، ويؤدي هذا الاختلاف إلى تباين في طبيعة المشاريع المسموحة وفي حوافز الرقابة بين الطرفين.ـ فعلى سبيل المثال، حينما يودع عميل ما مبلغاً في مصرف ربوي مقابل فائدة مضمونة، إن كان العميل واثقاً في قدرة المصرف على الالتزام، فهو غير محفّز على رقابة المصرف، وتفتح هذه الثقة مجالاً لمخاطرة غير مسؤولة من قبل المصرف، وقد تهدد تلك المخاطرة النظام المالي إذا انتشر أسلوب عدم الرقابة في أغلبية المصارف والمعاملات المالية.ـ أمّا إن أودع العميل المبلغ في مصرف إسلامي، فالمصرف غير مصرّح له تقديم مبلغ مضمون كمكافأة للعميل، بل يتوجب على المصرف أن يوضح للعميل أنه في حالة استثمار المصرف لأموال العميل، فإنّ في ذلك مخاطرة على المصرف، ويتوجب على العميل أن يشارك في هذه المخاطرة، ويحفز هذا العميل أن يستفسر عن طبيعة المشروع المقترح؛ لكي يجمع معلومات عن المردود المتوقع وعن الخسائر المحتملة في حالة عدم نجاح المشروع. ويحفز هذا التدقيق المصرف إلى التركيز على مشاريع رشيدة استباقاً لاستفسارات العميل، وذلك لاستقطاب أمواله. وتعتبَر الآلية الموصوفة أعلاه فكرة نظرية عن عامل قد يؤدي إلى تفوق المصارف الإسلامية على المصارف الربوية. وماذا عن الجانب الفعلي؟ بناءً على بيانات مصرفية للفترة 1995-2009 والتي تشتمل على الأزمة المالية الدولية، اكتشف الباحث بيك وزميلاه أنّه مقارنة بالمصارف الربوية، فإنّ المصارف الإسلامية تتميز بجودة أعلى من الأصول، وتتسم بقدرة أكبر على الصمود أثناء الأزمات المالية. وتأتي تلك الإيجابيات شكلياً على حساب الفعالية في أعمالها الداخلية، لأنّ التكاليف الإدارية للمصارف التقليدية أدنى من تكاليف نظرائها في القطاع الإسلامي، ولكن ربما تعود هذه الظاهرة إلى قلة خبرة المصارف الإسلامية نسبياً؛ نظراً لأنّ معظمها تمّ تأسيسها خلال السنوات الثلاثين الأخيرة، وبالتالي فإنّ ذلك ربما لا يعكس وجود أي ثغرة جذرية في الصيرفة الإسلامية.ـ وبالعودة إلى مجلس البنوك الإسلامية، نجد أنّ طبيعة النقاش خلال اجتماع 2015 اختلفت عما جرى في اجتماع 2000: كان التوسع الدولي للمصارف الإسلامية قائماً على تواجد عدد هائل من المسلمين في دول غير مسلمة يبحثون عن وسائل مالية شرعية، أمّا الآن، فقد تمّ توعية «المحرّك الكامن» وهو: العميل غير المسلم. وقد يشكّل هذا السبب الأساس لإعلان مدينة لندن خطتها لاحتلال دور العاصمة الدولية للصيرفة الإسلامية، فالرأسماليون الإنجليز يفكّرون في الخمسة مليارات من غير المسلمين في العالم الذين تعذبوا خلال الأزمة المالية الدولية، وليس فقط في الملياريْ مسلم المنتشرين في كل أنحاء العالم. وإن شاء الله ستحتل البحرين دوراً ريادياً في اغتنام الفرص المتاحة لتعزيز قطاعها المتميز للخدمات المالية. وربما ستصبح الرسالة التسويقية للمصارف التقليدية: «كن مسلماً ورشيداً».ـ Article: "The Perils of Superficially Analyzing Productivity"(إغواء التحليل السطحي للإنتاجية)2/6/2011 نشر في صحيفة أخبار الخليج
الإنتاجية هي معدل إنتاج العامل الفرد. فرضا، إذا أنتجت شركة ما منتجا قيمته 100 دولار باستخدام خمسة عمال فالإنتاجية هي 20 دولارا للعامل الواحد. وإن قسمناها بشكل عام على مستوى البلد، تعكس الإنتاجية التقدم التكنولوجي. وإذا نظرنا إلى إحصائيات هيئة تنظيم سوق العمل البحرينية فسنرى انخفاضاً في الإنتاجية لا يقل عن 2% سنويا في آخر 5 سنوات، واتسع توظيف الأجانب بما يزيد على 10% سنويا في نفس الفترة، وتجاوز الأجانب المواطنين البحرينيين.ـ فمن الطبيعي أن نقلق وأن نبحث في دور العمال الأجانب غير المهرة في انخفاض الإنتاجية. لكن يصبح استيعاب التغيير في الإنتاجية معقدا أكثر إن كان ما يدفع إلى ذلك هو تغيير في عدد وتكوين العمال وليس في إمكانيات عمال محددين ثابتين. سأستخدم نماذج في هذا المقال لتفسير هذه المسألة.ـ لنأخذ بلدين كمثال: البحرين والهند. ولنبسِّط التصور بافتراض أن عدد سكان البحرين 10 أشخاص فقط والهند 20 شخصاً. يعمل العمال البحرينيون بالقطاع المالي فينتج العامل الواحد وحدات خدمات مالية ويبيعها في السوق الدولي بسعر 20 دولارا للوحدة. ويتمكن العامل المنفرد من تقديم 5 وحدات خدمات يوميا وعليه فالإنتاجية البحرينية تساوي 100 دولار للعامل يوميا.ـ أما في الهند، فيشتغل العمال في القطاع الزراعي كفلاحين والإنتاجية اليومية هي 40 دولارا للعامل. وإذا أردنا أن نقيس الإنتاجية الإجمالية (على مستوى البلدين) فهي تساوي 60 دولارا يومياً للعامل (لأن عدد سكان الهند ضعف عدد سكان البحرين).ـ إن كانت الهجرة ممنوعة واكتشفت المصارف البحرينية فجأة تقنيات متطورة تسمح لكل عامل أن ينتج 6 وحدات خدمات يوميا، فسترتفع إنتاجية البحرين من 100 إلى 120 دولارا يوميا للعامل. أما إذا أمرت الحكومة بإجراءات بيروقراطية بأن تأخذ من كل عامل خُمسا من وقته فستتراجع الإنتاجية من 100 إلى 80 دولارا يوميا للعامل. وخلاصة المثالين أن التغير في الإنتاجية يعكس تماما تغيراً في مستوى المعيشة. ولهذا السبب يفرح الإداريون الاقتصاديون حينما تتصاعد الإنتاجية وبالمقابل يُستفزون إن انخفضت.ـ إن سمحنا بالهجرة الواسعة فستتعقد الأمور وينكسر الارتباط المباشر البسيط بين الإنتاجية ومستوى المعيشة، حيث ان من الممكن أن تنخفض الإنتاجية حينما يزدهر مستوى المعيشة! فكيف يمكن ذلك؟ وفي حدود المثال نفسه، فليتصور المرء هجرة 10 من سكان الهند إلى البحرين لكي يعملوا مساعدين في القطاع المالي، كلٌ منهم تحت إشراف أحد البحرينيين من الخبراء بالخدمات المالية. ويتمكن كل عامل بحريني أن يركز جهده على المهمات التي تتطلب المهارات العليا ويحول المهمات البسيطة إلى مساعده الهندي، فيرتفع انتاج البحريني من 5 إلى 9 وحدات خدمات يوميا، وكذا إيراداته اليومية من 100 دولار إلى 180 دولارا. يستوجب طبعا على المدير البحريني أن يدفع راتباً إلى موظفه الهندي، لا يقل عن 40 دولارا ليضمن انعدام رغبة الهندي في العودة إلى الزراعة في بلاده الأم، فيقدم مثلا مرتب 50 دولارا وما يبقى من الـ 180 دولارا، وهو 130 دولارا، يعود إلى البحريني.ـ وباختصار وبنتيجة الهجرة (وتضاعف عدد سكان البحرين):ـ كسب كل بحريني 30 دولارا يوميا كسب كل من المهاجرين الهنود 10 دولارات يوميا ارتفع مستوى معيشة المجموعتين (الهنود العشرة الذين لم يغادروا بلادهم لم يتأثروا). وأيضا تطورت التكنولوجيا في البحرين، فسمحت الهجرة للتخصص الأعمق وهو أساس الازدهار الاقتصادي كما أكد لنا الاقتصادي آدم سميث.ـ ماذا حصل للإنتاجية البحرينية؟ انخفضت من 100 إلى 90 دولارا يوميا للعامل (180 دولارا مقسما على عاملين)! هل هذا يتطلب رد فعل من سكان البحرين لكي يحموا مستوى معيشتهم؟ كلا فقد استفادوا، ولمن يهتم بمصلحة المهاجرين الهنود فقد استفادوا هم أيضا. ربما يبدو المثال كلغز أو خدعة لكنه مثل شريف وصحيح. وكما فسرت سابقا، فالنقطة الجوهرية هي إدراك ما يدفع إلى التغيير في الإنتاجية. إن كان العمال محددين وثابتين، فبشكل عام لن ترتفع الإنتاجية من دون تحسن في مستوى المعيشة. لكن إن تغير عدد العمال وجاء القادمون من مجموعة ذات إنتاجية أدنى فهناك مجال للمزاوجة بين انخفاض في الإنتاجية وارتفاع في مستوى المعيشة. ومن ناحية نظرية إحصائية، فهذه الظاهرة معروفة، وتعرف بـ "ظاهرة ويل روجرز".ـ وبالطبع فالمثال السابق مبسط وكان بالإمكان بناء مثال يعكس علاقة حدسية بين الإنتاجية ومستوى المعيشة. فاهتمامي الأساسي كان دفع القارئ إلى الحذر وعدم الانفعال عند تحليل تأثيرات التحركات في الإنتاجية، وبتذكيره بأن التغيرات في مستوى المعيشة أهم من تغيرات الإنتاجية. فقد مر المجتمع وسوق العمل البحريني بتغييرات كبيرة على مدى آخر 10 سنوات نتيجة الهجرة وعلينا كشعب أن نفهم ما سببته وكيف سببته قبل أن نتخذ قرار حول سياستنا المتجاوبة.ـ طبعا ليس الأفق الاقتصادي هو الوحيد الذي يحمل وزناً في سياساتنا فهناك نواح أخرى مهمة، منها فرض التأثيرات على النسيج الاجتماعي والهوية الوطنية وهكذا. لكن ليس هذا عذرا للاعتماد على تحليل اقتصادي غير سليم: إن رغبت أن تفهم تحركات الإنتاجية في ظل وجود هجرة كبيرة، يجب التدقيق والتحقيق في مستوى المعيشة بطريقة مباشرة قبل الوصول إلى استنتاج حول الفوائد والمضارـ. |
Omar Al-Ubaydli
This is where you can find all my articles, as well as some of my interviews and media mentions Archives
June 2020
Categories
All
|
Omar Al-Ubaydli
Bahrain Center for Strategic, International and Energy Studies PO Box 496, Manama Kingdom of Bahrain |
© COPYRIGHT 2015. ALL RIGHTS RESERVED.
|