شهدنا جميعاً مطلع هذا الأسبوع نهاية التحقيق الذي بدأته المملكة العربية السعودية لمكافحة الفساد مع الأمير وليد بن طلال. واستدعاءه بهذا الشكل العلني من قِبل السلطة القضائية خلق فزاعة لجميع السعوديين ستجعلهم يفكرون ألف مرة قبل أن يتسببوا في أي فساد مالي أو يشاركوا فيه، خشية محاسبة السلطات على أفعالهم وقراراتهم. ولكن، هل اتباع مبدأ العصا هو الحل الوحيد للقضاء على الفساد؟ـ أنجزت دانيلا سيرا، الأستاذة بجامعة ساثرن ميثوديست بحوثاً عدة حول الفساد امتدت لعدة أعوام، وهي البحوث التي فازت عنها بجائزة فرنون سميث الافتتاحية للباحث الصاعد، والتي تقدمها المؤسسة الدولية لبحوث الاقتصاد التجريبي. في الأسابيع التالية، سنقوم في هذا العمود بفحص الدروس المستفادة التي يمكن لصناع السياسات والقرارات في المملكة تطبيقها بناء على هذا البحث الحائز على جائزة علمية مرموقة. وأول جزء سنتناول فيه بحث مشترك مع الباحث ديمتري ريفكن والذي نشرته جامعة فلوريدا حديثاً بعنوان: "الفساد والمنافسة في أرجاء المؤسسات البيروقراطية: دراسة تجريبية".ـ
الفكرة التي تقوم عليها هذه الدراسة شديدة البساطة، وهي في نفس الوقت أحد أعمدة المفاهيم المؤسسة لعلم الاقتصاد: المنافسة كعامل مساعد في تحقيق المؤامة بين كلاً من الأهداف الفردية والمجتمعية. وهذه هي "اليد الخفية" التي كان يقصدها الأب الروحي للاقتصاد الحديث في القرن الثامن عشر، الفيلسوف الأسكتلندي آدم سميث.ـ من خلال تجربتي الشخصية للتسوق في متجر البقالة في الحي الذي أسكن به، عادة ما أتلقى خدمة رائعة هناك. فالعاملون يتميزون بالود وتقديم المساعدة للمتسوقين، إلا أن الأسعار التي أجدها هناك هي نفسها التي يمكن أن أجدها في أي مكان آخر، ولدي مجموعة واسعة من الخيارات. وهذه الخكمة المميزة ليست بسبب أن العاملين يعرفونني ويعاملونني بود، أو لأن مدير المتجر يديره كما لو كان مؤسسة اجتماعية. فالحقيقة هي أن الدافع وراء كل هذا هو المنافسة: فهناك عدة متاجر في نفس الحي، وإن يجرأ أحدهم على رفع الأسعار أو انخفض بمستوى الخدمة التي يقدمها، سأتوقف ببساطة عن التسوق هناك وسأتوجه لمتجر آخر. وبالإضافة إلى ذلك، لو حاولت جميع المتاجر التآمر لرفع الأسعار، ستبوء محاولاتهم بالفشل الذريع، حيث أن هناك مسافات جغرافية كافية تفصل بين كل متجر وآخر، مما يجعل مراقبتهم لبعضهم البعض مهمة صعبة، وبالتالي لن يثق متجر في الآخر أو أن يتحدوا معاً في رفع الأسعار. ولذا، فالمنافسة هنا تعني أن استراتيجية المتجر الرابحة هي إرضاء العميل.ـ ولهذا، بغياب المنافسة تسوء الأوضاع: فبمجرد أن تقضي على حرية اختيار المستهلك في سوق مثل سوق الاتصالات في منطقة الخليج في الفترة التي سبقت التحرير الاقتصادي، فأنت بهذا تضع في يد متاجر البقالة أداة تمكنهم من تحقيق مزيداً من الأرباح بإغضاب المستهلكين (من خلال رفع الأسعار وخفض مستوى الخدمة)، بدلاً من أن يحدث بالعكس.ـ ولابد أن نأخذ في الاعتبار أن هذا نظام مراقبة الجودة يعمل عموماً بدون حاجة السلطات إلى معاقبة متاجر البقالة سواء نتيجة لرفعها الأسعار أو تقديم خدمة سيئة.ـ ويرى كلاً من ريفكن وسيرا أن نفس المبدأ ينطبق على أمثلة الفساد الأدنى. فلنفترض أنك ترغب في تجديد رخصة القيادة الخاصة بك، وهذا أمر يستدعي زيارة شخصية إلى المكتب الحكومي المختص. فإذا كانت رسوم التجديد 10 دولارات، وكان مستوى الرقابة محدوداً أو متدنياً، ففي هذه الحالة يمكن لموظف الخدمة المدنية أن يقوم بابتزازك، ويطالبك بمبلغ أكبر يأخذه من تحت الطاولة بعيد عن الأعين فقط ليقوم بواجبه ويجدد رخصتك. في كثير من البلدان، للأسف، مثل هذا الفساد البدائي شائع، لأن ثقافة الفساد متفشية ويتورط العديد من كبار المسؤولين في حوادث الابتزاز، فالجميع متآمر على تقويض دعائم نظام المراقبة والشكاوى.ـ أما التدبير المضاد الذي يقترحه كل من ريفكن وسيرا فهو توظيف المنافسة، وهي عملية تتم في ثلاث خطوات.ـ أولاً، لابد وأن يكون هناك مجال للاختيار: بمعنى أن تكون سلطة تجديد رخصة القيادة بيد عدد مختلف من الموظفين المدنيين أو موزعة عليهم.ـ ثانياً، أن تكون هذه الخيارات متقاربة من بعضها وليست متباعدة، حتى لا يضطر المواطن لتحمل خدمة سيئة من أحد موظفي الخدمة المدنية لأنه لا يجد بديلاً عنها، على أن يكون البديل متاحاً بكل سهولة ويسر. فلو أن البديل للخدمة السيئة التي يتلقاها من يقوم بتجديد رخصته هو الذهاب لمدينة أخرى للحصول على نفس الخدمة فهذا خيار غير فعال، فمن لديه هذا الوقت والطاقة لإضاعتها لقطع كل هذه المسافة؟ـ ثالثاً، لابد وأن يتم سد الثغرات والمسالك على كل موظفي الخدمة المدنية حتى لا يتمكنوا من التآمر معاً، وهذا يعني وضعهم في فروع مختلفة وبعيدة عن بعضهم البعض لمسافة كافية، فلا يستطيع أي منهم أن يراقب الآخر.ـ وكما هو الحال مع متاجر البقالة، فالمنافسة تساعد على تحقيق المواءمة بين الأهداف لدى موظفي الخدمة المدنية وأهداف المدنيين. فالمسؤولون الذين يقومون بطلب رشاوي تحت الطاولة بشكل مبالغ فيه، سيجدون أنفسهم يخسرون "عملاء"، الأمر الذي قد يسبب لهم المشاكل، إذ ما ساور الشك رؤسائهم ومديريهم. كما يوضح كلاً من ريفكن وسيرا أن فاعلية وقوة هذه الآلية تتضاعف في حالة المعاملات المتكررة مثل رسوم مرور البوابات أثناء التنقلات اليومية للذهاب للعمل، بشكل أكبر من المعاملات التي لا تحتاج إلى تكرار مثل الحصول على رخصة زواج، مما يعني أن المنافسة لها دور أكبر في المعاملات المتكررة لمحاسبة هؤلاء المجرمين.ـ فاعلية المنافسة كآلية لضمان مستوى عالٍ من الجودة سواء في مثال متجر البقالة والمعاملات الحكومية لا يجب لبسها بالمثالية والكمال الفريد. ففي نهاية الأمر، بعض الخدمات مثل الخدمات الصحية والتعليمية تتطلب ما هو أكثر من مجرد خيار آخر للمنافسة، خاصة وأنها تحتاج إلى نفقات ضخمة الحجم تُدفع بشكل مسبق مقابل خدمة لا يمكن استردادها ويصعب تقييم جودتها مقدماً. ولذا، في مثل هذه الحالات لابد من الجمع بين الإشراف والمنافسة لتحقيق النتائج المنشودة.ـ وفي حالة المملكة العربية السعودية، يأمل المرء ألا تكون مثل هذه النوعية الفساد منتشرة. إلا أن نفس المبدأ قد يتم تطبيقه على المناقصات: لتجنب الفساد في اعتمادات والمناقصات، يمكن للحكومة تعيين عدة وحدات تختص بمنح المناقصات، حتى يتمكن مقدمو العطاءات من التوجه إلى مجلس المناقصات القادر على تقديم أفضل خدمة ممكنة لهم.ـ في الأسبوع المقبل، سنواصل التعمق في بحث سيرا وكيف يمكن للمملكة الاستفادة منه وتطبيقه في خططها لدحض الفساد المالي والقضاء عليه.ـ
0 Comments
Leave a Reply. |
Omar Al-Ubaydli
This is where you can find all my articles, as well as some of my interviews and media mentions Archives
June 2020
Categories
All
|
Omar Al-Ubaydli
Bahrain Center for Strategic, International and Energy Studies PO Box 496, Manama Kingdom of Bahrain |
© COPYRIGHT 2015. ALL RIGHTS RESERVED.
|